العالم تغير بعد أزمة كوفيد 19 يجب أن نعترف بهذا، إذ إن كل إنكار يؤخر التطور، ويعيق اللحاق بالركب العالمي، تغيرات عديدة فرضت نفسها على الساحة العالمية، سواء في مجال العمل، التجارة، تقديم الخدمات، الدراسة، التواصل المجتمعي.... إلخ.
من أهم هذه المتغيرات هي مسألة "العمل عن بعد" التي فرضت نفسها وبقوة على الساحة العالمية، ظهرت في البداية في صورة احتياج صارخ بسبب قيود حظر التجول والحجر الصحي والإغلاق التام، ثم ظهرت فوائدها مع الوقت في صور متعددة، سواء داخل بيئة العمل أو خارجها أو فيما يخص حياة الموظف خارج دوائر العمل أو في انعكاس فكرة "العمل عن بعد" على المجتمع بكامله.
في هذا المقال نناقش مفهوم "العمل عن بعد" من أغلب جوانبه مع ذكر اتجاهات الشركات الكبرى فيه، ورأي خبراء إدارة الموارد البشرية، الفكرة هي الوصول لأقرب توازن صحيح يحقق مصلحة الأطراف الثلاثة: جهة العمل، الموظف والمجتمع.
[Sommaire]
تطورات ما بعد كوفيد-19 (موقف الدول)
البداية من أبعد دول العالم "نيوزيلاندا" التي حددت عدد أيام العمل بأربعة أيام أسبوعيا -فقط لا غير-، الأسبوع التقليدي في العمل سواء خمسة أو ستة أيام لم يفوق الأربعة أيام إنتاجيًا بل على العكس، أدى إجهاد الموظفين وضعف التوازن بين الحياة داخل وخارج العمل إلى تقليل الإنتاجية والتأثير سلبًا على روح بيئة العمل.
هذا الاتجاه اقتدت به دولة "الإمارات العربية المتحدة"، قامت بتحديد عدد أيام العمل في صورة أربعة أيام ونصف اليوم -فقط على غير- على أن تبدأ إجازة الموظفين الأسبوعية مع صلاة الجماعة يوم الجمعة وتنتهي صباح الإثنين، ما يساعد الإمارات على التنسيق مع الجهات الأجنبية بتزامن أيام الإجازات الأسبوعية، ما يقلل -بالضرورة- من أيام الانتظار في المعاملات المالية والتجارية وما إلى ذلك.
هذا التقليل يقابله -بالضرورة- إمكانية التحول بالكامل للعمل عن بعد، إذا كانت إمكانيات الموظف التقنية في المنزل تسمح بذلك، ولا تقتضي مهنة الموظف -مثل المهن الطبية وخدمات الإنقاذ- التواجد في مقر العمل، وهنا ننتقل إلى رواد العمل عن بعد..
موقف الشركات العالمية من العمل عن بعد
البداية مع عملاق التواصل الاجتماعي ورائد تغيير شكل التواصل على مستوى الكوكب "فيسبوك" سابقًا و"ميتا" حاليًا، فقد صرح مديرها التنفيذي ومؤسسها "مارك زكربيرج" أنه في خلال خمس إلى عشر سنوات -على الأكثر- ستكون نصف عمالة "فيسبوك" تقوم بالعمل من خارج مقرات الشركة، هذا مع الأخذ في الاعتبار أن مقر شركة فيسبوك -سابقًا- في سيلكون فالي هو من أفخم وأفضل مقرات العمل، مقر يحاكي الطبيعة، ويسمح للموظف بالعمل بحرية دون تقييده بمكتب محدد، ويوفر كل سبل الراحة والمتعة أثناء العمل، إلا إنه رغم كل هذا مازالت تشير التقارير أن توزيع أسبوع الموظف بين البيت والعمل يزيد من إنتاجيته، كما أن ترك حرية الاختيار له يؤدي إلى نتائج أفضل مع الوقت سواء في جانب الإنتاجية أو تقليل التوتر أو التوازن بين الحياة داخل وخارج العمل.
ثم نأتي إلى شركة "تويتر" العالمية التي ترتفع أسهمها بقوة، وتحدث صراعات من أجل السيطرة عليه؛ لما تمثله من خطر وتهديد للحكومات قبل الأفراد، صرح مديرها التنفيذي أن "الموظفون يمكنهم العمل عن بعد إلى الأبد، إذ رغبوا هم بذلك"، تصريح حداثي يفتح الباب لقبول فئات أوسع من الموظفين ممن لا تسمح لهم ظروفهم الصحية أو العائلية أو بعد المسافات من التواجد في مقر العمل كل يوم بمواعيد ثابتة.
هذا النهج اتبعته شركات كبرى -أيضًا-مثل: ميكروسوفت، سبوتفاي، ماستر كارد، كذلك WWP أكبر وكالة دعايات وإعلان في العالم التي أعلنت بدورها عن ترك حرية الاختيار للموظفين بين العودة لمقر العمل أو العمل عن بعد بمواعيد مرنة.
موقف خبراء الموارد البشرية
يوصي خبراء الموارد البشرية بمراعاة ثلاثة أمور عند تحديد إمكانية العمل عن بعد من عدمها، ألا وهي:
راحة الموظفين
أولوية إدارة الموارد البشرية الأولى هي توفير بيئة داعمة للموظفين سواء داخل مقر العمل أم خارجه، حرية العمل عن بعد تٌتيح للموظفين خيارات أكثر راحة سواء على المستوى البدني أو الذهني، الفكرة هي دراسة احتياجات كل قسم على حدة، وطبيعة حياة كل موظف وإلتزاماته؛ للوصول لتشريعات تدعم جميع الأطراف؛ لتحقيق أكبر مصلحة للعمل على المدى القريب والبعيد -على حد السواء-.
الخيارات الشخصية
يجب دعم خيارات الموظفين الشخصية طالما لا تتعارض مع أدوارهم الوظيفية، ولا تعيق من سير العمل، الخيارات الشخصية قد تكون إما دوام كامل عن بعد، أو عمل جزئي سواء داخل مقر العمل أم خارجه، أو دوام كامل داخل مقر العمل؛ إذا اقتضت طبيعة العمل وسمحت حياة الموظف، وإلا يمكن إسناد وظيفة أخرى له واستبداله بأخر تتوافق ظروفه مع طبيعة العمل المٌكلف به.
في هذا الصدد تقول خبيرة الموارد البشرية "إيميلي درايكوت جونز": " أزمة كوفيد 19 أجبرت أصحاب العمل على تجاوز الفكر التقليدي الذي يربط الإنتاجية مع عدد ساعات عمل محدد داخل مكتب مغلق"، كما أوٌصت إيميلي بضرورة الاستفادة من الإمكانيات التكنولوجية الحديثة، مثل: تطبيق زووم، برنامج اجتماعات جوجل؛ لتحسين التنسيق والتواصل بين الموظفين سواء من يقوموا بالعمل داخل مقرات العمل أو من يقوموا بالعمل عن بعد.
مساحة مقر العمل
فكرة العمل عن بعد تٌعطي إمكانية للشركات الناشئة وذات المساحات الصغيرة في زيادة عدد العاملين بها دون إضافة أعباء مادية إضافية عليها، مما يفتح الباب لزيادة نشاطها التجاري بمنتهي السلاسة واليسر، خيار العمل عن بعد أصبح من أولويات الشركات الناشئة لهذا السبب.
بالطبع يجب الأخذ في الاعتبار طبيعة العمل واحتياجات العملاء المستهدفين وإمكانية التنسيق بين جميع الأطراف قبل البت في قرار العمل عن بعد، ويمكن اتخاذه تدريجيًا لدراسة تأثيراته على الموظفين والعملاء وإنتاجيات جهة العمل في الوقت نفسه.
وقبل أن نذهب تلقائيًا للقرار العمل عن بعد يجب رؤية مزاياه وعيوبه -المحتملة- بالنسبة للمثلث المستهدف: جهة العمل، الموظف والمجتمع، وهي مزايا وعيوب ليست قاطعة بالضرورة بل تتأثر بظروف وطريقة تطبيق العمل عن بعد.
مزايا العمل عن بعد
الموظف
يحقق العمل عن بعد عدة امتيازات للموظف أهمها:
توازن أكبر بين الحياة العملية والحياة الشخصية : خصوصًا بين فئات مثل الموظفين الذين يدرسون في الوقت ذاته، الأمهات الجدد، الآباء والأمهات للأطفال الصغار، كبار السن ذوي الخبرات الواسعة القادرين على العطاء الذهني دون الجسدي.
المرونة : ما يسمح للموظف بتنسيق ساعات عمله وفقًا لحياته الخاصة لا ما يٌفرض عليه من العمل من التاسعة صباحًا للخامسة مساءًا يوميًا، ما يعيقه عن أمور حياتية كثيرة.
الحرية : تأتي تلقائيًا مع التوازن بين الحياة العملية والحياة الشخصية والمرونة، ما يساعد الموظف على الارتباط أكثر بجهة عمله، وعلى الاستمرار بها لمدة أطول ما تغير طبيعة حياته الشخصية أو حتى انتقاله من بلد إلى أخرى.
القوة البشرية يجب أن تكون الاستثمار الأول لجهة العمل؛ لذلك يجب عليها أخذ جميع الاحتياطات اللازمة؛ لمنع تسربها من بين أيديها.
جهة العمل
العمل عن بعد يقلل من مساحات المكاتب المطلوبة ومن النفقات المترتبة عليها من مياه وكهرباء وغاز وخدمات صيانة وخلافه، ما يقلل من الالتزامات قصيرة الأجل لدي الشركة، ما يحسن بالضرورة من موقفها المالي، ويساعدها في ضخ استثمارات أكبر في مشاريع قادمة.
مع الوقت ستبدأ الشركة بالتقليل من العقارات المملوكة للجهة الإدارية بها، يمكن الاستفادة من ذلك في التوسيع من رقعة المساحات الخدمية للعملاء وخلافه.
المجتمع
يساعد العمل عن بعد -كليًا أو جزئيًا- في التقليل من التكدس المروري خصوصًا في ساعات الذروة، ويساعد في تطبيق قيود التباعد الاجتماعي بشكل أفضل، كما أنه يتيح للمجتمع توظيف شرائح أكبر من أفراده؛ لم يٌمكن توظيفهم في ظروف العمل السابقة على أزمة كوفيد 19.
قرار تقليل عدد العمالة المكتبية والتحول -جزئيًا أو كليًا- للعمل عن بعد قرار ليس بالهين أبدًا لكنه حتمي، ويحتاج إدارة موارد بشرية واعية ذات رؤية وإصرار وثبات وقدرة على التعامل مع المشاكل المحتملة للتعامل معه؛ للحصول على افضل نتائج لجميع الأطراف المعنية.